بعد تجدد الاتهامات الأمريكية لبكين.. هل كان فيروس كورونا مُصنّعاً أم طبيعياً؟
لغز يعود للعالم بعد 5 سنوات
بعد توتر تجاري بين الولايات المتحدة والصين في عام 2020، انتشر فيروس كورونا الذي قتل وأصاب ملايين البشر بالعالم، حيث اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ولايته الأولى (2017 -2021) بكين بتصنيع الوباء من مختبر في ووهان الصينية ونفت الأخيرة آنذاك، قبل أن يجدد ترامب اتهاماته لبكين في ولايته الثانية التي بدأت في يناير الماضي، وسط تجاذبات اقتصادية.
وتأتي هذه الاتهامات والمناوشات بين واشنطن وبكين بعد نحو شهر من تكرار منظمة الصحة العالمية طلب أصل بيانات الجائحة من الصين دون استجابة من الأخيرة، ما أعاد اتهامات الولايات المتحدة للصين بتصنيع الفيروس بمختبر رائد عالميا في علم الفيروسات، دون أن تلقى رواية النفي للصين رواجا كبيرا.
ويرى مراقبون أن تلك المعركة التي تتجدد هي مجرد محاولة من ترامب لممارسة ضغوط أكبر لتحجيم التنين الصيني أمام هيمنة واشنطن، خاصة وأن القضية لم تحسم طبيا بعد على وجه اليقين، إلى جانب أن ترامب يسعى لجلب تريليونات جديدة للولايات المتحدة بمعاركه الاقتصادية والسياسية، ويريد إضعاف منافسة الصين لبلاده، لا سيما وأنه اقترح مع مناقشات بشأن الوباء قبل شهرين إجبار بكين على دفع تريليونات الدولارات كـ"تعويضات" عن التسبب بالسماح للفيروس بالانتشار.
في المقابل يستبعد الخبراء استجابة بكين لاتهامات واشنطن بنشر الفيروس ودفع التعويضات، لا سيما في ظل أوضاع اقتصادية عالمية أكثر هشاشة جراء الحروب والصراعات بعد أعوام من تفشي فيروس كورونا.
وفي ديسمبر 2019، أشار مكتب منظمة الصحة العالمية في الصين إلى مجموعة من حالات "الالتهاب الرئوي"، وعقب أكثر من ثلاثة أسابيع، أغلقت السلطات الصينية المدينة التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة، قبل أن يتوسع ويتسبب في قتل ما لا يقل عن 7 ملايين شخص حول العالم.
تجديد الاتهامات
وفي مطلع فبراير الجاري، ذكرت متحدثة البيت الأبيض كارولين ليفيت، أن الادعاءات التي تفيد بأن فيروس كورونا تسرب من مختبر في مدينة ووهان الصينية هي "حقيقة مؤكدة"، مشيرة إلى بيان صادر عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي إيه" يؤكد أن الفيروس خرج من مختبر في ووهان وسط الصين.
وأشارت ليفيت إلى أن إدارة الرئيس السابق جو بايدن، كانت لديها فرصة لإخبار الشعب الأمريكي بالحقائق حول هذا الموضوع، لكنها لسبب ما اختارت عدم فعل ذلك، مضيفة: "نعلم الآن أن هذه حقيقة مؤكدة. لقد استغرق الكشف عنها سنوات طويلة، ولكن الرئيس (دونالد ترامب) كان محقا في هذا الشأن".
وخلال فترة ولايته الأولى، أدلى ترامب بتصريحات متكررة عن فيروس كورونا، مدعيا أن الفيروس خرج من مختبر في ووهان، وأن الصين لم تتخذ الإجراءات اللازمة في الوقت المناسب، ما أدى إلى انتشاره في جميع أنحاء العالم.
تسلسل تاريخي
ورصدت "جسور بوست"، تسلسلا زمنيا لأصل فيروس كورونا والروايات التي أحاطت به على مدى 5 سنوات على النحو التالي:
في أواخر يناير 2020: أصدرت بعثة منظمة الصحية العالمية إلى ووهان بياناً قالت فيه إن البيانات تشير إلى انتقال المرض بين البشر في ووهان ولكن يلزم إجراء المزيد من التحريات لفهم النطاق الكامل لانتقال المرض، وسط حديث من المنظمة أن هناك "معلومات محدودة متاحة".
في مارس 2020: وجه ترامب وسط توترات بشأن تعزيز بكين قدراتها العسكرية، اتهاما مباشرا لبكين وسماه "الفيروس الصيني" وقال إن الفيروس "أتى من الصين. أعتقد أنها عبارة في محلها تماما، والصين نشرت معلومات مغلوطة مفادها أن جيشنا نقل إليها الفيروس".
واستدعت واشنطن السفير الصيني للإعراب عن احتجاجها على ترويج بكين لنظرية مؤامرة تشير إلى وقوف الولايات المتحدة وراء ظهور الفيروس، وأطلق المتحدث باسم الخارجية الصينية تشاو لي جيان تغريدة وقتها اعتبر فيها أن "الإصابة الأولى" بفيروس كورونا الذي باتت منظمة الصحة العالمية تعتبره جائحة، أتت من الولايات المتحدة وليس من مدينة ووهان الصينية.
ووقتها حض مسؤول السياسة الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني يانغ جيشي، نظيره الأمريكي مايك بومبيو، على "تصحيح سلوك بلاده الخاطئ فوراً ووقف توجيه اتّهامات للصين لا أساس لها".
وفي الشهر ذاته، قال فنغ تسي جيان، عضو الفريق الصيني ونائب مدير المركز الصيني للسيطرة على الأمراض والوقاية منها، إن الخبراء ناقشوا 4 طرق محتملة وصل بها الفيروس إلى ووهان، وهي أن خفاشاً يحمل الفيروس أصاب إنساناً بالعدوى، أو أن خفاشاً أصاب حيواناً من الثدييات كان وسيطاً في نقل العدوى للإنسان، أو بسبب شحنات من الأطعمة الباردة أو المجمدة، أو مختبر لأبحاث الفيروسات في ووهان،
وأجرى الخبراء تصويتاً على الفرضيات بعد مناقشة متعمقة، وخلصوا إلى أن أحد المسارين الحيوانيين أو أن السلسلة الباردة كانت على الأرجح طريقة انتقال العدوى. فيما كان احتمال التسرب في المختبر مستبعداً للغاية، بحسب جيان.
في أبريل 2020: أكد منظمة الصحة العالمية أنه في هذه المرحلة، من غير الممكن أن نحدد بدقة مصدر الفيروس الذي سبب الجائحة، مستدركة: "ولكن جميع الأدلة تشير إلى أن مصدر الفيروس طبيعي ويعود للحيوانات وليس فيروسا مصنوعا أو مفتعلا"، وفقا لما ذكرته المتحدثة باسم المنظمة فضيلة شايب خلال إيجاز قدمته للصحفيين في مدينة جنيف السويسرية.
في سبتمبر 2020: زعمت عالمة فيروسات صينية مرموقة لي مينج يان، المتخصصة في علم الفيروسات والمناعة في مدرسة هونج كونج للصحة العامة العريقة والتي كانت أحد من عمل على الفيروس ببلادها، أن بكين كانت على علم بفيروس كورونا قبل أن تبدأ التقارير في التحدث عن الوباء، وأنها أخبرت مشرفيها بأن الفيروس فيه بصمة الإنسان والتزموا الصمت، مؤكدة أنه جاء من مختبر ووهان.
في مارس 2021: كشفت دراسة أعدتها منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع مسؤولين صينيين، حول أصل الفيروس، نشرتها وكالة "أسوشيتيد برس أن انتقال فيروس كورونا من الخفافيش إلى البشر عبر حيوان آخر هو "السيناريو الأكثر ترجيحًا"، وأن مسألة تفشيه من مختبر "غير مرجحة".
في مايو 2021: زعمت دراسة جديدة للبروفسور البريطاني أنجوس دالغليش والعالم النرويجي الدكتور بيرغر سورنسن أن لديها دليلًا على أن العلماء الصينيين صنعوا فيروس كوفيد-19 في المختبر ثم حاولوا "إخفاء آثارهم" بطريقة تجعل الجميع يعتقد أن فيروس كورونا وكأنه تطور بشكل طبيعي من الخفافيش.
وأواخر الشهر ذاته، أمر الرئيس الأمريكي وقتها جو بايدن هيئات الاستخبارات بمضاعفة الجهود وإعداد تقرير حول أصل فيروس كورونا، وما إذا كان الفيروس قد سرب من أحد المعامل في الصين، فيما أدانت الصين المساعي الأمريكية، وحذر مسؤولون في السفارة الصينية في واشنطن من "تسييس" الجهود الرامية إلى تحديد أصل فيروس كورونا.
وفي مارس 2023: وقع خلاف نادر بين الصحة العالمية وبكين، وقال المدير العام للمنظمة، تيدروس أدهانوم غيبريسوس إن "المواد الجينية التي تم الكشف عنها حديثا، والتي تم جمعها في ووهان بوسط الصين، كان ينبغي مشاركتها قبل 3 سنوات"، مؤكدا أنه "من دون الوصول الكامل إلى المعلومات التي تمتلكها الصين، لا يمكنك قول هذا أو ذاك"، في إشارة إلى أن فرضية تصنيعه ممكنة كمثل الفرضية الأخرى.
واعتبرت المديرة الفنية لمنظمة الصحة العالمية ماريا دي فان كيركوف، في مقال افتتاحي أن مشاركة المعلومات بشأن ووهان بعد ثلاث سنوات "يرقى إلى قصور لا يغتفر" في الكشف عن المعلومات.
وبالشهر ذاته، قال مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، كريستوفر وراي، في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز: "يرى مكتب التحقيقات أن أصل الوباء هو على الأرجح حادثة محتملة في مختبر"، متهما الصين بأنها "تبذل قصارى جهدها لمحاولة إعاقة وتشويش" الجهود المبذولة لتحديد مصدر الوباء العالمي.
وبعد نحو شهر، اتهم مدير المركز الصيني للسيطرة على الأمراض والوقاية منها، شين هونغ بينغ، منظمة الصحة العالمية بـ"محاولة تشويه سمعة الصين وتسييس كوفيد-19"، مؤكدا أن بلاده "تشارك دائما نتائج الأبحاث بنشاط مع علماء من جميع أنحاء العالم"، حسب ما ذكرت وكالة أسوشيتد برس.
وفي أواخر ديسمبر 2024: قررت اللجنة الفرعية التابعة لمجلس النواب بقيادة الجمهوريين بشأن جائحة فيروس كورونا في تقرير مكون من 520 صفحة: "بعد 4 سنوات من ظهور أسوأ جائحة منذ 100 عام، فإن ثقل الأدلة يدعم بشكل متزايد فرضية تسرب المختبر".
وجاء هذا التقرير متوازيا مع اقتراح الرئيس المنتخب دونالد ترامب بإجبار بكين على دفع 50 تريليون دولار لتعويض البلدان الأخرى عن الوفيات واسعة النطاق والعواقب الاقتصادية والاجتماعية للفيروس، وفي العام الماضي دعا إلى "قمة عالمية حول التعويضات".
وبنهاية الشهر ذاته، حثّت منظمة الصحة العالمية، الصين على مشاركة بياناتها للمساعدة على فهم أصول "كوفيد-19"، ونقلت سي إن إن الأمريكية، عن العديد من الخبراء أنّ غموض الصين جعل العثور على إجابات عن أصول الجائحة أمرًا أكثر صعوبة.
قبل أن ترد المتحدثة باسم الخارجية الصينية، ماو نينغ، بالقول إن بلادها "شاركت الصين معظم البيانات ونتائج الأبحاث وقدّمت أكبر مساهمة في أبحاث التتبّع العالمية".
وفي مطلع فبراير الجاري، سلط البيت الأبيض الضوء على اتهام بكين مجددا، وسط معركة اقتصادية انطلقت شرارتها بعد أن فرضت الولايات المتحدة السبت تعريفة جمركية إضافية على بكين بنسبة 10% على منتجاتها، وقالت وزارة الخارجية الصينية الأحد في بيان "لا يوجد منتصرون في حرب تجارية أو حرب جمركية".
أهداف أمريكية
وقال أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، وعضو الحزب الجمهوري الأمريكي الدكتور نبيل ميخائيل، إن "الهدف هو الهجوم على الصين وتحميلها مسؤولية جسيمة في خسارة تعرضها لها الاقتصاد الأمريكي والعالمي"، متوقعا استمرار الاتهامات الأمريكية والكشف عن وثائق بجانب هجوم داخلي من ترامب ضد من لم يكن أكثر حزما في حماية واشنطن من هذا الوباء.
وبشأن احتمال تكرار صناعة وباء جديد وسط الصراع الأمريكي الصيني الجديد، قال ميخائيل في تصريح لـ"جسور بوست": "إذا كنا سنشهد فيروسا صينيا جديدا في مواجهة الرئيس ترامب فهذا أمر خطير، وسيؤكد أن بكين هي من صنعت الأول (..) لن تنتج الصين فيروسا جديدا وإلا ستكون كارثة وهذا معناه أنها تعادي العالم وليس أمريكا فقط".
وأكد ميخائيل، أن الولايات المتحدة أكثر شفافية كونها مجتمعا مفتوحا وديمقراطيا، ويكشف عن مصادر الأوبئة، أما الصين "فهي دولة سلطوية ومجتمع مغلق لا نعرف عنها"، داعيا بكين إلى أن تكون أثر شفافية في كشف الحقائق الصحية.
استمرار المعارك
ومن جانبه، رأى أستاذ العلوم السياسية المتخصص في الشؤون الأمريكية، الدكتور سعيد صادق، أن عودة الحديث لتلك الاتهامات التي لم تحسم طبيا وتحمل فرضية التصنيع بمختبر، يعكس أن ترامب عاد للسلطة وكان لديه موقف سابق ضد بكين، حيث كان يسميه "الفيروس الصيني" وينتوي الاستمرار في هذه الخلافات.
وقال صادق في تصريح لـ"جسور بوست": "هذا المشهد هو جزء من مخططات ترامب لإضعاف الصين وجزء من حرب يقودها باعتبار أن العدو الأول لديه ليس روسيا أو الإرهاب بل بكين، وفي الأغلب فإن هذه المعركة الطبية ستستمر طيلة الولاية الثانية لترامب".
ولم يستبعد صادق أن تجرى محادثات بين واشنطن وبكين الفترة المقبلة، مضيفا: "لكن لن يعني هذا إنهاء الحرب التي أشعلها ترامب ولن تقود لتفاهمات، لأن هدف ترامب أن تكون أمريكا رقم 1 وبكين رقم 2 وليس العكس وسط مساعٍ لجلب تريليونات الدولارات".
ولا يرجح الخبير السياسي أن يشهد العالم وباء جديدا أيا كانت الجهة التي تقف وراءه، خاصة في ظل اقتصاد عالمي ضعيف، وستكون الصين نفسها والولايات المتحدة من أكبر المتضررين، قائلا: "لكن سنرى معارك قادمة بشأن فيروس كورونا وضغوطا متبادلة بين بكين وواشنطن".